Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

البعث يحاول اختراق القوات المسلحة والمخابرات العامة

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

ـ 32 ـ

الجزء الأول - البداية الأولى

(الحلقة 32 والاخيرة)




دار الحديث حول الأوضاع العربية بصفة عامة وخططنا ورؤانا للمستقبل مع تقييم شامل حقيقي لدور تنظيم طليعة الاشتراكيين والطليعة العربية في العالم العربي واستمرت المناقشات ليوم كامل أصر الرئيس على أن يدلي كل منا برأيه وتقديره للموقف تفصيلا منتهيا بمقترحات كل منا.

كان هناك اتفاق بشكل عام على التقييم والتشخيص والتخطيط للمرحلة القادمة لما تبلورت عنه المناقشات واستعراض المواقف والآراء وتشخيص الأوضاع السياسية والعسكرية و الاجتماعية وإن اختلفت الآراء بعض الشيء حول أسلوب التنفيذ وتحقيق الأهداف التي ألخصها في الآتي:

اختيار قومي عربي حاسم بالنسبة للروابط المصرية العربية وذلك لضمان أمن واستقلال مصر من ناحية وباسم مسؤوليات مصر من ناحية أخرى وذلك انطلاقا من الإيمان بأن هناك أمة عربية واحدة وأن مصر جزءاً لا يتجزأ من هذه الأمة.

أن تكون سياستنا العربية امتدادا مرنا واعيا لسياستنا الداخلية أي أن الاستقلال السياسي لا دلالة له ما لم يكن سبيلا لتحقيق الاستقلال الاقتصادى (حرية. اشتراكية. وحدة).

مصر قاعدة سليمة تملك كل مقومات مركز الجذب، فمصر الوحدوية هي ضرورة حيوية للاستقرار والسلام في المنطقة، ومن دون مصر، يفتح المجال أمام الصهيونية ومن ورائها لتقسيم المنطقة والأقطار المحيطة ب “اسرائيل” لكي تضمن بقاءها ووجودها قوية على حساب دول ضعيفة متفرقة.

متابعة ومحاصرة الأنشطة الانفصالية والمراهقة سياسيا عن طريق طرح المفاهيم الأصيلة وشغل الساحة العربية وعدم خلق مناطق فراغ عقائدي، وبصفة خاصة في البؤر الحساسة المؤثرة على العمل العربي الوحدوي.

متابعة ومحاصرة النشاط المعادي للقومية العربية وبصفة خاصة في لبنان والأردن باعتبارهما كانتا من مراكز النشاط الميداني والإعلامي، هذا علاوة على متابعة باقي الأنشطة على اتساع الساحة العربية مع وضع أولويات جغرافية لمجالات نشاطنا عربيا.

وانتهى الاجتماع على أن يقوم كل منا في مجال اختصاصه بإعداد الخطط والدراسات التفصيلية لهذه التكليفات خلال أسبوعين على أكثر تقدير من تاريخ هذا اللقاء، مع استمرار عقد لقاءات أخرى جانبية وفرعية للتنسيق ولضمان التنفيذ الجيد بعد إقرار الخطط من جمال عبد الناصر مع وضع أسلوب واضح ومحدد للمتابعة ومتابعة المتابعة، يتولى مسؤوليته وزير الدولة سامي شرف بعد أن تقوم كل جهة بإبلاغه به، وأثناء خروجنا من استراحة المعمورة أومأ إلي الرئيس لأبقى حيث قال لي:

“بكرة حانقعد هنا في نفس التوقيت ويحضر معنا شعراوي وهيكل فقط والباقون يعودون إلى القاهرة اليوم لتحضير وتنفيذ ما كلفوا به”.

يوم الخميس 13 أغسطس1970 الساعة العاشرة صباحا التقينا شعراوي جمعة ومحمد حسنين هيكل وأنا حسب الاتفاق وجلسنا في البلكون الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط وبعد قليل دخل جمال عبد الناصر قائلا: “انتو فطرتم و لا لسة؟”.

فلما أجبنا بأننا أفطرنا بدأ الكلام مباشرة عن الأوضاع الداخلية في البلد وأثار النقاط التالية:

ضرورة العمل على تماسك الجبهة الداخلية خلف القوات المسلحة من أجل المعركة.

تأمين قوت الشعب والعمل بإصرار وبعنف على ضرب عناصر التلاعب بقوت الشعب.

محاولة عمل قياس صحيح للرأى العام بقدر الإمكان.

المزيد من العمل السياسي في الداخل بتنشيط الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي في مجابهة العناصر الانهزامية أو المتآمرة سواء من الداخل أو من الخارج.

وهنا التفت الرئيس جمال إلى شعراوي جمعة وكانت تعابير وجهه جامدة وجادة بشكل حاد وقال له:

“إزاى يا شعراوي حزب البعث ينجح في تجنيد ضباط من القوات المسلحة المصرية والمخابرات العامة؟!”

فوجئ شعراوي بالسؤال.. ولكنه رد بأنه لا دخل له بأمن القوات المسلحة وأن المسؤولية تقع كلية على عاتق المخابرات الحربية.

ولم يقتنع الرئيس بهذه الإجابة وقال لشعراوي أن هناك طرفاً مدنياً وافداً على مصر بالتعليمات ومكلف بعملية تجنيد عناصر مصرية وكان من المفروض أن تتابعه أجهزة وزارة الداخلية (المباحث العامة) التي تتبع شعراوي جمعة، وقال:

“أنه إذا كانت هذه الأجهزة صاحية كانت اكتشفت هذا النشاط مبكرا أو لاحقا ولكانت نسقت مع المخابرات الحربية عمليات المتابعة والكشف، ولو أن هذا لا ينفي مسؤولية المخابرات الحربية أيضا لكن المسؤولية تقع من وجهة نظري (الرئيس) على شعراوي جمعة”.

حاولت أن أتدخل كما حاول شعراوي أن يذكر الرئيس بأن هناك اتفاقاً بعد مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر 1967 أن كل جهة مسؤولة عن أمنها وأن نبتعد عن القوات المسلحة وأن يتم التنسيق فقط بين الأجهزة المعنية إذا تداخلت القضايا بمعنى أننا لم نكن نتدخل من قريب أو من بعيد في شؤون القوات المسلحة ولا عمل أي تنظيمات فيها بل يترك الأمر لوزير الحربية باعتباره المسؤول السياسي والعسكري عن القوات المسلحة باعتباره هو في نفس الوقت القائد العام للقوات المسلحة..

الاّ أن عبد الناصر أصر على مسؤولية شعراوي جمعة حيث أن الطرف الإيجابي الملقن والناقل للتآمر كان طرفا مدنيا وافدا من الخارج وهذه مسؤولية أجهزة الأمن المدنية وليست العسكرية.

ثم أثار الرئيس في نفس الوقت نقطة سياسية أخرى وهي:

أنه لو كان التنظيم الطليعي يملأ الساحة بشكل فعال لما استطاعت بعض عناصر حزب البعث أو غيره من النفاذ إلى الساحة المصرية.

حاولنا أن نرد على هذه النقطة بأن الواجبات الملقاة على عاتق التنظيم الطليعي في المرحلة الحالية ضخمة جدا وهي تفوق إمكانيات التنظيم البشرية ولكونه سريا وليس علنيا..

وكان التركيز في الواجبات في هذه الفترة على زيادة الإنتاج والجهود الذاتية وما إلى ذلك من دعم الجبهة الداخلية ذاتيا بقدر الإمكان، ومن ناحية أخرى فان السرية المفروضة على التنظيم الطليعي وأعضائه تعتبر عائقا بمثل ما تعتبر عنصر قوة للتنظيم.

احتدت المناقشة ودافع كل عن موقفه وحجته وكان هيكل متفرجا..

قال جمال عبد الناصر بعد ذلك: “على العموم قوموا دلوقت وفكروا في كلامنا ده، ولنا لقاء آخر”..

قمنا أنا وشعراوي وتوجهنا إلى مكتبي في المعمورة وكان يشغل إحدى استراحات الإصلاح الزراعي بالإسكندرية وكانت تقع في أعلى ربوة تبعد عن استراحة الرئيس وعن البحر بحوالي نصف كيلومتر تقريبا ، وتخلف هيكل بحجة أنه سيعرض بعض الموضوعات على الرئيس..

وصلنا إلى مكتبي وبعد حوالي ربع الساعة وصل هيكل وعندما دخل وجدنا جالسين نفكر فيما دار من حديث عاصف وكنا في الواقع نبحث عن حلول لمشكلة قائمة، ولم نكن نفكر أبدا في أنفسنا ولا في مناصبنا ولا في أي حاجة شخصية بل إعتبرنا أنفسنا جنوداً و أبناء لعبد الناصر وأننا نجابه قضية تآمر وافد وصل إلى القوات المسلحة مما دفع بالرئيس أن يشدّ علينا بلغة العسكر كي نصحو والكل يفيق حتى لا تفلت الأمور في غفلة.

وكما تعلمنا في الكلية الحربية وفي حياتنا العسكرية وفي علم الإدارة عموما عندما نلمس تراخياً أو أن الأمور ستفلت من قيادتك لسبب أو لآخر سواء كان السبب مفروضاً عليك أو غصباً عنك أو عفوياً أو طارئاً، فإن عليك أن تشدّ على الصف الثاني وهذا يشد على الجنود وهكذا تبقى النتيجة أن ينشط الكل في الإتجاه الصحيح ويصحح إتجاه البوصلة، وأعتقد أن هذا الأمر ثابت كيميائيا أيضا باستخدام المنشطات stimulants ، المهم أننا إعتبرنا أن حديث الرئيس لنا كان بمثابة المنشط لحركتنا وعملنا وليس آي شيء آخر.

دخل هيكل علينا وقال:

“إنتم بتعملوا إيه؟ ده الريس زعلان لأنه كان شديد قوي معاكم في الكلام..” ولم يكمل هيكل كلامه حيث ضرب جرس التليفون في مكتبي وقمت بعد أكثر من رنين، حيث كان التليفون الذي يضرب الجرس هو الخط العادى وليس الساخن ومن ناحية أخرى كنت أريد أن أسمع من هيكل باقي كلام الرئيس.. ورفعت سماعة التليفون لأقول: “أيوه..”، مع إن عادتي أن أرد على أي تليفون بقولي: أفندم..

كان جمال عبد الناصر على الطرف الآخر،وابتدرنى قائلا بمنتهي الرقة:

“ما دام بتقول آيوه، تبقى زعلان..”

قلت: “أبدا يافندم.. حازعل من إيه؟.. الشغل ما فيهوش زعل.. والموضوع اللي كنا بنناقشه فيه وجهات نظر، واختلاف وجهات النظر ما يزعلشي، وكون سيادتك تحتد أو تقرص علينا في المناقشة ده أحسن وبأعتبره وضع طبيعي وتعليمي، وده من حقك كقائد ومعلم.

فقاطعني قائلا:

“بلاش فلسفة يا أستاذ... هو شعراوي زعل؟”

فقلت: “أبدا يافندم ده إحنا قاعدين بتناقش في كيفية حل المشكلة وحصرها.

قال: “وهل وصلتم إلى حل؟”

قلت: “لأ لسة.. لكن هناك فكرة عامة لم نبلورها بعد..”

قال: “هيكل جاء لكم؟”

قلت: “أيوه يا فندم وبلغنا إن سيادتك زعلان علشان إحساسك بأننا زعلنا... وده غير وارد إطلاقا”.

فطلب الرئيس أن أكلمه بعد ما نصل إلى قرار...

وقبل أن ينهي الرئيس الحديث قال: إبقوا زوروا أنور السادات الليلة، علشان هو وصل من ميت أبو الكوم للإسكندرية بعدما كان غضبان (موقفه من مبادرة روجرز).. ونبقى نتقابل هناك...

قلت: “حاضر يا فندم”.

قام هيكل بعد ذلك واستأنفنا بحث الموضوع ووصلنا إلى قرار ابتدائي هو حسم القضية بدلا من ترك المسائل تتشعب وتتسع و”تجرجر” آخرين وهي السياسة آلتي علمنا إياها الرئيس عند اتخاذ موقف من قضايا التآمر .

قمت وطلبت الرئيس على الخط الساخن، وقلت له: “إحنا يافندم وصلنا لقرار.. وأرجو إذا سمحت سيادتك أن تسمعه من شعراوي”.

(الحقيقة أنا قصدت أن أتيح الفرصة لحديث مباشر بين الرئيس وشعراوي جمعة لامتصاص أي حساسيات قد تكون قد ترتبت على حديث الصباح فقبل كل شيء وبعد كل شيء نحن بشر..).

فوافق الرئيس وتحدث مع شعراوي حديثاً لطيفاً ورقيقاً وعرض شعراوي قرارنا، فوافق الرئيس وقال له أنه كان قد وصل إلى نفس القرار لكنه كان منتظر ليعرف رأينا وفعلا تم القبض على ضابطين من القوات المسلحة وأحد ضباط المخابرات العامة وكان أحدهم زوج ابنة كمال الدين رفعت ( ك. ز.)...

(يمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا الموضوع في الوثائق المحفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات في منشية البكري و أرشيف المخابرات العامة والمخابرات الحربية).

في حوالي الثامنة مساء توجهنا في سيارتي وكنت أقودها بنفسي، شعراوي جمعة وأنا إلى الفيلا التي كان أنور السادات يقيم بها في المصيف بالإسكندرية في حي لوران، وقابلنا الرجل بترحاب كبير علما بأنه لم يحضر حفل زفاف ابنتى ليلى قبل ذلك بأسبوع ولم يعتذر ولم يجاملني لا هو ولا حرمه كما لم يرسل أبناءه أيضا... ما علينا، إنما الشيء بالشيء يذكر، وأصر السيد أنور أن نبقى لنتعشى معه “فتة كوارع”... جلسنا نتحدث في مسائل كثيرة عامة وخاصة وبعد حوالي الساعة دخل من يهمس في أذنه ولكن بصوت سمعناه أن الرئيس جمال في طريقه لزيارة السادات... فنظر الرجل إلينا نظرة بما معناه إتفضلوا قوموا وأن الزيارة انتهت... ولم نشأ أن نقول له أننا نعرف أن الرئيس سيزوره ومثّلنا دور أننا سنستأذن من باب الذوق واللياقة والإتيكيت وقلنا له: إحنا حانقوم.. ولم يحاول الرجل أن يسترجع أنه دعانا للعشاء ولم يحاول أن يمسك فينا بعدما ألح علينا من عشر دقائق فقط أن نمضى السهرة معه...!

خرجنا وظللنا نسير على غير هوى على الكورنيش وفي شوارع وميادين الإسكندرية ثم عاد كل منا إلى بيته0 وفي حوالي الواحدة صباحا رن جرس التليفون بجوار رأسي، فرفعت السماعة وأنا شبه نائم قائلا...: “أيوه”.. للمرة الثانية في نفس اليوم..، ولدهشتي كان المتحدث جمال عبد الناصر الذي قال لي ضاحكا: “الله.. هو آنت لسة زعلان وإلا إيه الحكاية؟”.

فقلت “أبدا يا فندم.. سيادتك تؤمر بحاجة؟”.

فقال لي: “أيوه..” ثم سكت...

وسكت أنا بالتالي انتظارا لأوامره، أو يبدأ هو بالحديث حتى لا أقطع تفكيره وكانت هذه هي طريقة الحديث بيننا.

فقال الرئيس: “أنت يعنى ما بتسألنيش أنا قلت لك أيوه ليه؟”

فقلت له: “هو سيادتك زعلان !! ؟”

وضحكنا نحن الاثنين... ثم قال لي: “يا خبيث.. أيوه أنا زعلان منك أكثر ما أنا زعلان من شعراوي عارف ليه؟

قلت: “ده موضوع الصبح خلاص فيما أعتقد يافندم”.

قال: “لأ أنا زعلان من موضوع بالليل لأنك لم تفهمني لا إنت ولا شعراوي عارف ليه؟.. ثم استطرد قائلا لأنك لو كنت دققت في ألفاظ مكالمتي لك في الصبح لكنت فهمت إني مرتب قعدة بالليل عند أنور ووصفه بما كان متداولا بيننا على نطاق ضيق بصفة معينة لا داعي لذكرها هنا علشان نبقى مع بعض ونفتح المواضيع كلها وندى له درس علشان يتعلم إن الاختلاف في وجهات النظر في مسائل الحكم والأمور العامة ما دامت في الإطار الشرعي والدستوري، أو لا يكون مقصود بها الإضرار، فإنه مسموح به لأقصى حد حتى ينتج عنه صراع الأفكار والآراء ونستخلص من ذلك الحقائق ونصل بذلك إلى القرارات السليمة بقدر الإمكان في إطار سليم وبلا إنشقاقات.

(كان الرئيس جمال عبد الناصر يريد أن يلقنه درسا في موضوع غضبه من تعنيفه إياه على معارضة مبادرة روجرز وموقف مصر منها ).

واستطرد الرئيس قائلا: “وأنا لما قلت للسكرتارية أن يبلغوا أنور أني في الطريق لزيارته قصدت أن تعرفوا أني قادم فتبقوا معه وما تروحوش.. لكن يا أستاذ إنت نسفت الفكرة دون أن تدري!”.

فاستأذنت الرئيس في المقاطعة لأشرح له ما حدث وكررت عليه ما حدث تفصيلا معلقا على تصرف أنور السادات بأنه “جليطة” لأنه كاد يقول لنا صراحة: قوموا بقى وانه ما صدق إن الرئيس حايزوره خصوصا في هذا الظرف الحساس بما معناه أن الجلسة لم تعد على هذا المستوى بل على مستوى أكبر منكم !!!

وختمت وجهة نظري بقولي: أن وضعنا أصبح حرجا جدا إزاء الطريقة التي كان يتصرف بها وأصبح الوضع وكأنه موضوع كرامة الواحد الشخصية... فأيدني الرئيس على وجهة نظري وقال ما إنت عارف إنه.... ! وضحكنا.

صباح اليوم التالي الجمعة 14أغسطس1970 أبلغني محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس أن أطلب الرئيس في تليفون غرفة نومه فورا.. وطلب مني الرئيس أن أتصل بالسفير سامي الدروبي سفير سوريا في القاهرة لأبلغه بدعوة الرئيس له للاستجمام لمدة أسبوع هو وعائلته بالإسكندرية حيث سيلقاه الرئيس في جلسة خاصة.

طلبت الأخ العزيز الراحل سامي الدروبي وأبلغته برغبة الرئيس، وحضر فعلا للإسكندرية هو وعائلته في إحدى سيارات رئاسة الجمهورية وكان قد اعد لهم جناحا خاصاً في فندق فلسطين بالمنتزه، وأبلغت الرئيس بأن السفير سامي الدروبي موجود بالإسكندرية وقد أعد له برنامج ترفيهي لحين لقاء الرئيس له كما صاحبته منذ وصوله.

حدد الرئيس موعدا للقاء السفير سامي الدروبي الذي كما ذكرت من قبل أنه كان يعتز به كشخص ويحترم رأيه ويقدره تقديرا عاليا فتوجهت بسيارتى الخاصة من دون سائق لأصطحبه من الفندق إلى استراحة الرئيس بالمعمورة حيث إلتقاه الرئيس بترحاب فتذكرت في هذه اللحظة كيف كان الرئيس يقول لي أن سامي الدروبي إنسان مثقف واع، ووحدوي أصيل شريف، لا يسعى إلى جاه أو سلطان أو منصب بل كان يسهم وهو مريض بكل قواه الفكرية والجسدية بما يخدم القضية وباعتباره جندياً قومياً عربياً قبل أن يكون سفيرا وقبل أن يكون سوريا.

بعد الترحيب به من قبل الرئيس الذي بادر وقال:

“يا سامي...”

فضحكنا ثلاثتنا في نفس اللحظة، لكونه سامي الدروبي ولكوني سامي شرف، وكلانا يعلم أن الرئيس جمال يحبه بصدق.

عاد الرئيس فقال: يا أخ سامي أنا الحقيقة أحببت أولا أن أرفه عنك من عناء العمل في حر الصيف بالقاهرة، وثانيا أن نلتقى بعيدا عن الرسميات وعن جو القاهرة والأضواء لأني أريد أن أحكي لك إنت بالذات أموراً كثيرة لتكون أحد الشهود على ثورة 23 يوليو ..1952. ولثقتي فيك ثقة لا حدود لها فأنا عايز أقعد معاك جلسة واثنين أو أكثر لو اقتضى الأمر لأشرح لك بالتفصيل الكثير من القضايا والأسرار والمواقف العامة والخاصة...

كنت أجلس على كرسي في مواجهة الرئيس، وكان سامي الدروبي يجلس بجوار الرئيس، وبحكم العادة ركزت على متابعة انفعالات سامي وتعبيرات وجهه وهو يستمع وكان رحمه الله يحسن الاستماع، مقل في كلام لا داعي له، مستطردا ومستفيضا في الكلام المفيد، مرتب الذهن والتفكير، صافي العقل هادئ، متزن، رزين ، حالم بعلم، شاعري.

وكما رأيت فقد بدأت الانفعالات بابتسامة عريضة لأن الثقة تأكدت من خلال هذه العناوين ورؤوس المواضيع التي طرحها الرئيس جمال عبد الناصر.

ثم تدرجت الانفعالات من فرح إلى دهشة إلى ذهول لدرجة أني في لحظة أحسست أني سأقوم من مكاني لأهزّه لكي أطمئن أنه معنا.

وعندما انتهى جمال عبد الناصر من استعراض العناوين قال:

“ إيه رأيك يا سامي ؟”

فلم يرد سامي!!

ضحك الرئيس وقال له إنت نمت ولا سرحت... وهنا تنبه سامي وقال برقة متناهية:

“عفوا سيدي الرئيس أنا معك.. معك بقلبي وبروحي وبوجداني وعقلي وبكل ما أملك.. لكن لا تؤاخذني سيدي الرئيس.. لكي أكون أمينا وصريحا معك فإن اذنيّ لا تصدقان ما أسمع.. وهل أنا في هذه المنزلة والدرجة من الثقة عندك بالدرجة التي تسمح أن أشارك في هذه الأمور الجسيمة الخطيرة التي نعتبرها ملك عبد الناصر، وعبدالناصر فقط الحقيقة سيدي الرئيس أنا على استعداد لأن أقيم أمام باب هذه الاستراحة طوال الفترة اللي تراها وترتضيها حتى ننتهي من الاستماع إلى بحث هذه المسائل الحيوية والمصيرية خصوصا في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها عالمنا العربي والقطر المصري بصفة خاصة.

قال الرئيس جمال: “لا، أنا أحببت فقط أن أنقل إليك عناوين رئيسية لكي تفكر فيها لتكوّن نظرة شاملة حتى تكون المناقشة مثمرة، ولكي لا نحرث في الماء كما يقولون، ولكي لا نحكي فقط زي ما بتقولوا في سوريا، واستطرد الرئيس قائلا، عايزك تأخذ يومين راحة واستجمام في هدوء وبعدين أبعث لك سامي يجيبك لنبدأ حديثنا التفصيلي.

بعد يومين وفي الصباح الباكر أبلغني أحد أفراد السكرتارية الخاصة للرئيس أن أتصل بالرئيس في غرفة نومه، فأدرت قرص التليفون على رقم الرئيس الخاص ورد بعد أول جرس وهذه كانت عادته، وقلت:

“صباح الخير يا فندم”.

“صباح الخير يا أستاذ... أنا قلقتك بدري؟”

“أبدا يافندم... أوامر سيادتك”.

“إزاى سامي الدروبي؟ مستريح في إقامته ومخصصين له عربية وإلا لأ؟”

“أيوه يافندم.. هو مستريح تماما من جميعه.. لكنه قلق جدا نتيجة تفكيره فيما دار من حديث مع سيادتك وقال لي مساء إمبارح أن الرئيس ألقى على ضميري وعلى عقلي تبعة ومسؤولية خطيرة للغاية، أرجو أن أكون موفقا فيما سأقوله وأتناقش فيه مع الرئيس”.

“هو فاكر إن تحمل المسؤولية ومصير أمة شيء هين أو بسيط أو يتقرر بالكلام بس.

التعامل مع البشر لا يحتاج لزراير تدوس عليها في ماكينة لتعطيك حاصل ضرب أو عملية طرح أو قسمة أو جمع، التعامل مع البشر عملية غاية في الصعوبة والتعقيد لأنك لن تستطيع أن ترضي كل الناس طول الوقت، ولن تستطيع أن تحقق رغباتهم وطموحاتهم كلهم مرة واحدة.

إنت فاكر كلام ديجول في إحدى خطبه لما قال “إن أي حاكم لهذا البلد لن يستطيع يرضى شعب يأكل مائة وخمسين نوعاً من الجبن”.

ثم إن الكمال لله، ولن تستطيع قوة بشرية أن تعدل كل العدل أو تهيئ للمجتمع كله ما يريد ويحلم به، لابد أن تحدث أخطاء ولكن لابد أن نمر بمراحل التجربة والخطأ إذا أردنا أن نتقدم، وإلا سنصاب بالجمود ونقف محلنا في الوقت الذي يتقدم فيه العالم كل يوم خطوات وخطوات، شوف الصين بدأت تجربتها سنة 1949 والنهاردة وصلوا لإيه، أنهم يقومون بإنتاج الإبرة والصاروخ، وشوف عملوا إيه في الزراعة، شوف عملوا إيه في القضاء على العصافير اللي كانت تأكل القمح عندهم وإلا الذباب وغيرها، إنهم يجربون ويضعوا أنفسهم على أول الطريق ثم يتقدموا ولا يتجمدوا وإلا ضاعوا في زحام طفرة التقدم التي يلهث العالم كله جريا وراءها للحفاظ على بقائهم، نهايته، تجيب لى سامي الدروبي النهاردة الساعة 11 الصبح.

ثم استفسر بعد ذلك عن أخبار الداخل والخارج فعرضت عليه موجز سريع للموقف على جبهة القتال و أهم الأخبار العالمية والداخلية.

في تمام الحادية عشرة دخلنا سامي الدروبي وأنا استراحة المعمورة وقدته إلى المكان الذي يفضل الرئيس أن يقعد فيه في هذا الوقت من النهار وبعد تقديم المرطبات والقهوة سمعت صوت رجل الرئيس نازلا على الدرج من الدور العلوي إلى الصالة، فنبهت سامي بإيماءة من رأسي بأن الرئيس في طريقه إلى حيث نحن نجلس، وأقبل الرئيس بقامته المرفوعة مرتديا قميصا أبيض اللون بنصف كم وبنطلوناً رمادياً وصندلاً من الجلد البني، دخل علينا مبتسما محييا قائلا: صباح الخير، إنتم قاعدين في المكان المضبوط والظاهر إنكم جايين مستعدين ومذاكرين كويس..، وضحك، وضحكنا كلنا.

رد سامي الدروبي: “سيادة الرئيس.. أنا بأكرر الشكر باسمى وبالنيابة عن حرمي على حسن وكرم الضيافة والترتيبات الكاملة والإمكانيات الموضوعة تحت تصرفنا.. وها الشيء كتير كتير قد لا نستأهله... وتعبنا الأخ سامي شرف معنا، لكنه هو معتاد على كدة كما نعلمه عنه وضحك.

ضحك الرئيس ونظر إلى نظرة رضاء، فهمت معناها من لمعان عينيه.

بدأ جمال عبد الناصر إعادة سرد رؤوس المواضيع التي سيتناولها النقاش بنفس الترتيب ويكاد يكون بنفس الألفاظ التي سبق أن عرضها في الجلسة السابقة، وقال لنبدأ بالنقطة الأولى.

ثورة 23 يوليو .1952. لماذا؟ وكيف؟ أين نحن الآن؟ إلى أين؟

كان لابد من إحداث تغيير جذرى في الخريطة السياسية لمصر التي كانت قد وصلت إلى أقصى انحدار لها سنة 1952 نتيجة لكون أن القضية الأساسية في إحداث التغيير تتبلور حول قضايا عامة أساسية لدوافع وطنية بالدرجة الأولى وإلا لما تمكنا من الوصول إلى إجماع حول القرار وبالتالي إلى نجاح التنفيذ.

ولو كنت طرحت منذ البداية قضية التحول الاجتماعى أو قضية الانتماء القومي العربي لما قامت الثورة ولدار جدل كان سيستمر يمكن للآن، ولحدثت اختلافات ولما نجحنا.

لكن القضايا التي كانت مطروحة أساسا هي:

الملك وحاشيته.

الاستعمار الإنجليزي والوجود العسكري الأجنبي على تراب الوطن.

الفساد.

الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم.

الأحزاب.

وهي كلها قضايا لا يختلف عليها اثنان لضرورة حسمها والقضاء عليها مهما كانت الأفكار والميول والاتجاهات لأي مصري وطني.. وكان هذا هو عنصر الضمان في القدرة على التحرك لتحقيق الهدف.

كانت التركيبة في حقيقتها غريبة..

كان فيه عناصر يمينية وعناصر يسارية.. كان فيهم إخوان مسلمين كما كان هناك شيوعيون وناس لهم فكر باتجاهات معينة وآخرون لا يفكرون في شيء إلا حاجة واحدة فقط هو طرد الإنجليز من مصر وناس انحصر اهتمامهم وتفكيرهم في طرد الملك وتصفية الأحزاب السياسية.

وناس كانت مؤتلفة معنا وهي تنفذ مخططاً محدداً يحقق أهداف تنظيمات كانوا مرتبطين بها وكان هدف هذه التنظيمات هو احتواء الثورة والاستفادة بناتج التحرك لهذه التركيبة لتحقيق أهدافهم التي كانوا في ذلك الوقت لا يستطيعون تحقيقها بمفردهم.





تحليل لشخصيات اعضاء مجلس قيادة الثورة



انتقل الرئيس بعد ذلك للحديث حول موقف الأفراد والانتماءات الفكرية لكل منهم وبدأ في تحليل شخصية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأهم عناصر الصف الثاني، كان يسرد ويتكلم عنهم فردا فردا دون أن ينسى أياً منهم وكان في حديثه يرتبهم وفق كل مجموعة مع بعضها مرتبة بالأقدمية وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه وكانت عناصر تقييمه تتم على الوجه التالي:

فلان... إسمه بالكامل.. تاريخ ميلاده ونشأته.. أسرته وتركيبتها الاجتماعية.. تفكيره.. وبمن أو بماذا يتأثر... انتماؤه الفكري... انتماؤه الطبقي... آماله وطموحاته... قدراته الحقيقية ومداها... مواقفه في الأزمات... دوره في القوات المسلحة... دوره في الثورة... التغييرات التي طرأت على شخصيته بعد نجاح الثورة... إمكانياته بعد إتمام دوره... الأمل في المستقبل وما يرجى أو لا يرجى منه... الاستنتاج.

كان واضحا في سرده وتحليله، صادقا في التقييم، لم يدخل انطباعاته الشخصية في هذا التقييم بالنسبة للجميع بدون استثناء.

كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة ولم نحس بمرور الوقت وكأنها دقائق مرت سريعا.

تناولنا بعد ذلك طعام الغداء العادي والذي كان عبارة عن أرز وفاصوليا خضراء وقطع من اللحم ثم الفاكهة.

اضطرتني الظروف والأحداث والتكليفات التي توالت بعد هذا اللقاء إلى العودة إلى القاهرة ولم أحضر باقي الجلسات، كما أني لم أحضر اللقاء الذي تم بين جمال عبد الناصر ودياللو تيللي وللأسف فإن هذه اللقاءات من اللقاءات النادرة التي لم تسجل وقد حاول السفير سامي الدروبي وأنا أن ندون تفاصيل ما دار في اللقاءات بعد رحيل جمال عبد الناصر لكن الأحداث والتطورات حالت دون إتمام هذه المهمة ودخلت أنا السجن ورحل الصديق سامي الدروبي إلى جوار ربه، وقد حاولت وما زلت أحاول مع



الخليج الإماراتية
5.11.2003" "

..............."

إنتهى نقل أبواب الكتاب الأول

يحى الشاعر

- الكتاب الثانى سيتبع -


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's
زيارتكم هى رقم

Web guest

Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US