Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf
الـحـــديث الصــحــفـى
 
عبدالناصر يختار طنطا مقراً لقيادة الحرب الشعبية
 
كتاب
 نـاصر محـارباً
تأليف
لورا جيمس 
- 2 -
 
"... أدليت للمؤلفة بمعظم البيانات الواردة أدناه توثيقا لتاريخ ثورة 1952
لذلك ، أعيد عرضهم على القارىء العربى مرة أخرى لتكملة سطور التاريخ ..."
سامى شرف
 
 
 

كتاب-ناصر محارباً-الحلقة(2)


عبدالناصر يختار طنطا مقراً لقيادة الحرب الشعبية

تأليف :لورا جيمس 
 
 
يجد القارئ نفسه هنا على موعد مع قراءة دقيقة ومختلفة مع أزمة السويس، قراءة داخلية إن صح التعبير، تجمع بين شهادات من عاشوا هذه الفترة الدقيقة بكل تعقيداتها وبين تحليل الوثائق التي قد تصحح ما أعوج من الذاكرة بحكم النسيان أو التناسي. والذين قرأوا بحب وتعاطف محاولات التأريخ العربية لهذه الفترة قد يعتقدون انه ليس هناك جديد، يمكن أن يضاف إلى ما يعرفونه بالفعل لكن المؤلفة لورا جيمس ستفاجئهم بأوراق كثيرة تحت أكمامهم، ربما تدفعهم إلى اعادة النظر في مواقفهم وادراك أن اسرار تاريخنا، حتى الحديث منه، أبعد ما تكون عن أن تكون معروفة لنا بالصورة التي نتطلع إليها. 
 
 
لقد رأينا كيف أن تقويم الزعيم العربي جمال عبدالناصر، الذي كتبه بخط يده في وثيقة نادرة بدأب ضابط الأركان المجتهد، قد استبعد امكانية أن يكون هناك تحرك عسكري من جانب بريطانيا ضد مصر، كرد على إعلان تأميم قناة السويس، في المدى القصير، بحكم عدم وجود قوات كافية لها في المنطقة للقيام بمثل هذا التحرك. أما في المدى البعيد فقد راهن على تلقي مصر للدعم من العالم الثالث ومن الكتلة السوفييتية في مواجهة مثل هذا التحرك.ليكن، ولكن ماذا عن موقف فرنسا؟ ماذا عن موقف اسرائيل؟جوهر استراتيجية ناصر اعتقد عبدالناصر ان رد فعل فرنسا على تأميم قناة السويس سيكون قوياً، فالشركة في نهاية المطاف شركة فرنسية في المقام الأول، ولكنه بينما لاحظ في وثيقته الشهيرة أن حركة المقاومة الجزائرية ستمثل دافعا لفرنسا للتحرك ضد مصر، إلا انه في الوقت ذاته اعتقد فيما يبدو انها ستكبح جماح قواتها ولن تدفعها في اطار تحرك عسكري شامل ضد مصر لأنها ستكون بحاجة إلى وقت كالذي تحتاجه بريطانيا قبل ان تحشد قوة عسكرية كبيرة ضد مصر.فيما يتعلق بإسرائيل، فإن عبدالناصر اعتقد انها يمكن ان تحاول المشاركة في تحرك عسكري ضد مصر، ولكن أميركا ستأمرها بألا تتدخل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن إيدن لن يرحب بمشاركة تل أبيب في مثل هذه العملية وسيفضل أن يبقيها في إطار أوروبي. 
 
 
الثابت من الوثائق والأوراق ان عبدالناصر عندما طرح المسألة على مجلس الوزراء آثار أحد أعضاء المجلس هذه النقطة على وجه التحديد، وهي مشاركة إسرائيل في تحرك عسكري ضد مصر، ولكن عبدالناصر استبعد هذا الاحتمال باعتباره مستحيلاً، ومن شأنه أن يلحق ضرراً جسيماً بدور بريطانيا في الشرق الأوسط، ووصف هذه المشاركة بأنها «تابو» اومحرم لن تستطيع بريطانيا مجرد الاقتراب منه. 
 
المدهش حقاً أن عبدالناصر حسبما تشير الوثائق تساءل لفترة قصيرة عما إذا كانت إسرائيل قد تنتهز الفرصة منفردة وتبادر إلى شن هجوم على سوريا أو الأردن لكنه لم يمض بهذا التكهن إلى أبعد من ذلك. 
 
لم يكن واردا بحال ان تتراجع مصر عن قرار تأميم القناة، وهكذا فإننا سنجد أن سلوك عبدالناصر في الفترة من يوليو إلى أكتوبر 1956 سيمضي بما يتفق مع هذه الرؤية وسيعطي الأولوية القصوى لكسب الرأي العام العالمي، ومن هنا جاء وعده بإعطاء تعويض كامل لحملة أسهم شركة القناة ولم تتم إعادة سفينة واحدة على الرغم من ان انجلترا وفرنسا حاولتا ارسال اكبر قدر من السفن إلى القناة لايجاد حالة من الارتباك في حركة المرور عبرها. 
 
وتلفت المؤلفة نظرنا، في صفحة 30 من الكتاب الى ان جوهر استراتيجية عبدالناصر قد اعتمد على مفهومه القائل إن الولايات المتحدة يمكن فصلها عن حلفائها الأوروبيين. فقد كان يعتقد أن الولايات المتحدة تطمح إلى الحلول محل بريطانيا وفرنسا في المنطقة، وحدث نفسه بأن عليه أن يستفيد من هذا التنافس. 
 
كان من الحتمي أن تتصاعد الأحداث، وتمثل رد فعل بريطانيا الأولي في عقد مؤتمر التأم جمعه بالفعل في 16 أغسطس، وكان عبدالناصر يعتزم أصلاً حضور هذا المؤتمر كرجل دولة لا يقبل أن يكون بعيداً عن قلب الأحداث، لكنه سرعان ما اقتنع بأن التميز البالغ الذي يعكسه جدول أعمال المؤتمر ومكانه من شأنهما الإساءة إليه. 
 
على الرغم من ذلك، وبعقلية رجل الدولة البارع، فإنه لم يستبعد كلية الحلول الوسط، من قبيل الاقتراح الهندي بعقد مؤتمر مزدوج الإشراف إلى أن شن إيدن ما وصف بالهجوم الشخصي العنيف عليه في 8 أغسطس، زاعماً أن الصراع ليس مع مصر وليس مع العالم العربي، وإنما مع «الكولونيل ناصر». وهكذا أحجم ناصر عن حضور المؤتمر وبعث بعلي صبري إلى لندن كمراقب، ظل على اتصال يومي بالوفدين الهندي والسوفييتي إلى المؤتمر. 
 
في 23 أغسطس أقر المؤتمر مجموعة من المقترحات التي تدور حول السيطرة الدولية على القناة، وتم إرسال وفد على رأسه فنريس فرانس رئيس الوزراء الاسترالي لإبلاغ القاهرة بمقررات المؤتمر، وكما هو معروف فقد كان لقاء الرجلين كارثة، حيث أسفر عن صدام حقيقي بينهما. 
 
لكن في حقيقة الأمر فإن هذا الصدام الشخصي كانت أهميته محدودة، فعبد الناصر لم يرحب قط بمقررات مؤتمر لندن، وأكد تصريح الرئيس الأميركي أيزنهاور الذي تزامن مع هذه الأحداث والذي تضمن استبعاد الخيار العسكري استحالة حمل ناصر على قبول هذه المقررات عبر الضغط أو التهديد. 
 
الصمود إذن كان سياسة ناصر، وفي مواجهته عقدت لندن مؤتمرها الثاني في 19 سبتمبر، وتزايد رفض المندوبين في المؤتمر للجوء إلى القوة في مواجهة مصر، وهكذا أصبحت فرنسا وبريطانيا معزولتين عن حلفائهما التقليديين. من المحقق أن هذا جاء بمثابة نجاح لسياسة عبدالناصر حيال أميركا، حيث انه من البداية ركز الأميركيون على الوساطة والإجراءات القانونية في مواجهة قرار التأميم، مشيرين إلى أن العمل العسكري لا مجال له. 
 
تشير المؤلفة هنا إلى أنه على الرغم من أن الخارجية الأميركية كانت فيما يبدو قد تخلت عن الأمل في التعاون مع عبدالناصر، إلا أنه بقيت قنوات خلفية مفتوحة بين القاهرة وواشنطن، ويرد في هذا الإطار ما تردد عن تنشيط الاتصالات القديمة بين زكريا محيي الدين وكرميت روزفلت. 
 
في الأسبوع التالي أحيل نزاع السويس إلى مجلس الأمن، وعند هذا المنعطف قرر عبدالناصر التفاوض وقدم ما تصفه المؤلفة ببعض التنازلات المحسوبة بعناية ومنها خطاب محمود فوزي وزير الخارجية الأقرب إلى المصالحة بصورة غير مألوفة في نيويورك والمناقشات المباشرة الخاصة التي أعقبت ذلك. عرض محمود فوزي على نظيره البريطاني سلوين لويد والفرنسي كريستيان بينو «تنازلات» ملموسة، على الأقل من منظور مصر، منها القبول بوجود جمعية المنتفعين بقناة السويس، والتحكيم في الخلافات مع الحكومة المصرية. 
 
وفي 13 أكتوبر، وبمساعدة راج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة توصل الجانبان إلى ما عرف ب«المبادئ الستة» كأساس لإجراء المزيد من المفاوضات التي تقرر الانطلاق بها في جنيف في نهاية الشهر نفسه. وحيا أيزنهاور رغم مشاغله العديدة في الحملة الانتخابية هذه الخطوة بمزيد من الحماس قائلاً: «يبدو أنه ها هنا أزمة كبيرة للغاية أصبحت شيئاً فرغنا منه». 
 
غير أن فرنسا وانجلترا كانتا تعدان منذ وقت طويل للحرب، وعقدتا العزم على حتمية ألا يكلل تأميم القناة بالنجاح. وليس من قبل الصدفة أن يكتب ايدن إلى هارولد ماكميلان وزير خزانته قائلاً: «لابد لناصر أن يتخلى عما ابتلعه». لم يكن هدف ايدن متعلقاً بقناة السويس، وإنما كان بوضوح في هذه المرحلة القضاء على النظام المصري، وأعتقد أن بوسعه القيام بذلك بالوسائل العسكرية أو بإجبار عبدالناصر على الاستقالة. 
 
على الجانب المصري، كانت الحكومة تعتقد أن مفاوضات جنيف ستصل إلى نتيجة إيجابية، وكما قال عبدالناصر في مقابلة لاحقة معه، فإن تلقي الانطباع بأن الجانب الآخر على استعداد للتوصل إلى اتفاق، وبالتالي استبعد احتمال حدوث غزو أنجلو ـ فرنسي لمصر. 
 
غير أن القيادة العسكرية المصرية العليا لم تكن على يقين من ابتعاد شبح الحرب، فقد تضمنت «الخطة نظام» المؤرخة في الأول من سبتمبر التأكيد على أن من المتوقع أن تقوم دول غربية بأعمال معادية ضد مصر نتيجة لتأميم قناة السويس، وكان الافتراض الضمني هو أن القوات المصرية لن تتمكن من رد الهجوم الغربي، وتركزت الخطط على معارك عرقلة ثم التراجع وشن حرب عصابات وليس الدفاع النشط أو شن هجوم مضاد. من المهم حقاً أن نلاحظ أن هذه الخطة تضمنت النص صراحة على أن «المرء لا ينبغي أن يتجاهل التحرك الذي قد تقوم به إسرائيل في هذه الظروف». 
 
ما أهمله التاريخ 
 
بدا 29 أكتوبر 1956 يوماً واعداً، وكان عبدالناصر قد عاد لتوه من إجازة نال خلالها بعض الراحة، استغرقت أربعة أيام، وكان عليه الاحتفال في مناخ عائلي بسيط في حديقة داره بعيد ميلاد ابنه، ولكنه خلال الحفل تلقى خبراً عاجلاً مفاده أن المظليين الإسرائيليين قد هبطوا على ممر متلا الاستراتيجي الذي لا يبعد سوى ثلاثين كيلومترا عن قناة السويس، وكانت تلك صدمة لا يستهان بها. 
 
يتذكر أمين هويدي، الذي كان في ذلك الوقت رائداً في الجيش المصري، أنه كان في غرفة العمليات، عندما جاء خبر التحرك الإسرائيلي في الساعة الثانية، وبدا الأمر له مريباً وغير منطقي، فلم تكن هناك محاولة لتحييد سلاح الطيران المصري، بينما مضت القوات الإسرائيلية تتحرك من دون غطاء جوي، وتحتل موقعاً خالياً وراء غيره، وبدا أنهم يريدون إحداث عاصفة رملية في الصحراء، على نحو ما عبر عبدالناصر في اتصال هاتفي في السادسة من مساء ذلك اليوم مع محمد حسنين هيكل. كان الاستنتاج المنطقي، إذن، هو أن الهجوم الإسرائيلي سيكون محدوداً، وانه مجرد تعميه على استهداف الأردن أو غزة، أو أن إسرائيل تريد إثارة المتاعب قبل توصل انجلترا وفرنسا إلى اتفاق مع مصر بشأن القناة. 
 
دعنا نتذكر أنه سبق هذا كله تلقي القاهرة تحذيرات عدة من عملية إسرائيلية مكثفة ضد مصر من سفراء عرب في واشنطن، بل ان عبدالناصر لاحظ تغير نغمة البث من تل أبيب على امتداد أسبوع كامل قبل هذه الأحداث. في أصيل اليوم التالي قدمت لندن وباريس للحكومتين المصرية والإسرائيلية إنذاراً مشتركاً بوقف القتال والانسحاب لمسافة عشرة أميال من القناة، الأكثر من هذا أنهما طلبتا من مصر القبول باحتلال مؤقت من جانب القوات الأنجلوـ فرنسية لمواقع رئيسية في بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وإلا فإن القوات البريطانية والفرنسية ستتدخل بأي قوة ترى أنها مناسبة. 
 
الذاكرة المصرية استعادت في لمحة أن آخر «احتلال مؤقت» لمصر من جانب الانجليز بدء في عام 1882 ولم ينته إلا منذ أشهر قلائل، وعلى الرغم من أن القاهرة كانت في السابق قد تجاهلت المؤشرات إلى التواطؤ البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي إلا انها اقتنعت بها الآن في التو. وعلى الرغم من أن تفاصيل المحادثات الثلاثية السرية التي جرت في سيفر لم تكن قد رأت النور إلا أن العالم كله أدرك حقيقة ما يجري. 
 
عادت إلى ذاكرة صانعي القرار في القاهرة تفاصيل التحذير الذي كان خالد محيي الدين قد بعث به من استانبول بصفته الملحق العسكري للسفارة المصرية هناك، نقلاً عن مصادر مطلعة في باريس من أن فرنسا ستتعاون مع إسرائيل في الهجوم على مصر في منتصف نوفمبر، ثم تم تعديل هذا الموعد المتوقع للهجوم إلى أواخر أكتوبر وقد وصل التحذير إلى القاهرة في 6 أكتوبر. 
 
ولكنه لم يلق أذاناً صاغية شأن التحذير الذي تلقاه السفير المصري في باريس نقلاً عن مصادر دبلوماسية تنتمي إلى الكتلة الشرقية، ولم يكترث بإبلاغه للقاهرة، بل إن السفارة المصرية رفضت العرض الذي تقدمت به شخصية مجهولة لكشف وقائع ما جرى في سيفر مقابل مبالغ مالية كبيرة. 
 
في الإطار نفسه، استطاع ثروت عكاشة بحكم منصبه في السفارة المصرية في باريس أن يحصل على «الخطة الدقيقة» التي تم وضعها في سيفر، وبعث بها مع الملحق الصحافي للسفارة الذي كان يعرف عبدالناصر معرفة شخصية وكلفه بإبلاغها للرئيس، الذي استقبله في 29 أكتوبر بعد وقت قصير من لقائه للسفير الأميركي. 
 
وكان تعقيب عبدالناصر على ما سمعه هو: هذا غريب للغاية، وطلب من الملحق الصحافي تكرار ما قاله مجدداً، ثم عقب بما يفيد أن إسرائيل وفرنسا يمكنهما القيام بذلك أما بريطانيا فسوف تفكر مئة مرة قبل الإقدام عليه. في التاسعة من مساء يوم تلقي الإنذار بعث عبدالناصر يستقدم سير همفري تريفيليان السفير البريطاني لدى القاهرة وسلمه الرفض الرسمي للإنذار الثلاثي. 
 
وكانت القاهرة قد اتخذت بعض الاستعدادات لهجوم غربي، فقد وضعت خطة لإجلاء المدنيين من منطقة القناة، ولإعادة الانتشار البحري من البحر الأحمر إلى الموانئ السعودية، ولكن حتى اليوم التالي كانت كل التقديرات المصرية تقوم على أن بريطانيا لن تشارك في الهجوم. 
 
ويتذكر عبداللطيف بغدادي أنه حتى صبيحة الحادي والثلاثين من أكتوبر لم يتم القيام بشيء لوقف تدفق التعزيزات العسكرية إلى القوات في سيناء، وذلك على الرغم من أن هيكل يطلعنا على أن عبدالناصر أمضى طوال الليل في النقاش مع عبدالحكيم عامر لإقناعه بسحب القوات من سيناء، وذلك على الرغم من أنه يصعب علينا قبول أن عبدالناصر لم يستطع إقناعه بشكل ما لو أنه هو نفسه كان يعتقد بأن الحاجة إلى الانسحاب حقيقية وماسة. 
 
في صدر مساء الحادي والثلاثين من أكتوبر بدأت الطائرات الفرنسية والإنجليزية في قصف الأراضي المصرية بالقنابل، وبحلول منتصف الليل كان الموقف في مقر قيادة العمليات متوتراً وعصيباً، فقد كانت القوات المصرية لا تزال متركزة في سيناء ومعرضة لقطع الطريق عليها، من خلال إنزال أنجلوـ فرنسي. ويقول سيد مرعي، متذكراً هذه المرحلة، إنه لم يكن هناك استعداد، ولا تخطيط ولا تدريب، ولا أي شيء اخر، لقد فوجئنا بالحرب على مستوى أعلى بكثير من قدرتنا المباشرة. 
 
دموع عبدالناصر 
 
على الرغم من أن عبداللطيف بغدادي يشدد على أن السؤال المحير في ذلك الوقت للجميع هو ما إذا كان من المحتم الاستمرار في القتال وتحمل عواقبها من دمار وخراب أم إنقاذ البلاد من الدمار بالاستسلام والعمل تحت الأرض ضد القوات الغازية. كان البعض يرى الأخذ بالخيار الأخير، ومنهم صلاح سالم الذي أعرب عن رأيه بوضوح، لكن عبدالناصر أعلن أن مصر ينبغي أن تقابل القوة بمثلها. من الناحية العملية، كان لهذا القرار وجهان، على نحو ما توضح المؤلفة في صفحة 43 من كتابها. 
 
ـ الوجه الأول تمثل في الأمر الذي أصدره عبدالناصر بانسحاب الجيش من سيناء والتمركز في مواقع دفاعية عن بر مصر. 
 
ـ الوجه الثالث إطلاق موجة من الاستعدادات الشاملة لحرب شعبية تعقب الهزيمة المصرية التي بدت حتمية، على أن يكون مقر قيادته لهذه الحرب الشعبية في طنطا في قلب الدلتا، وأخفيت مخازن من الأسلحة الصغيرة في العديد من القرى وتم تجهيز عدة محطات بث إذاعي سري. 
 
وطلب من هيكل تولي الجانب الإعلامي من هذه الحرب الشعبية الوشيكة، وتم تنشيط خلايا الفدائيين التي طالما انقضت على الإنجليز في منطقة القناة. واستقر الرأي على أن يكون النضال في إطار هذه الحرب الشعبية عبر قطاعات، كل قطاع منها قائم بذاته وله فائدة على أن تجد طرق اتصال سرية معروفة في أضيق الحدود بين القطاعات، وتم تجهيز الذراع المالية اللازمة لتمويل هذه الحرب الشعبية. 
 
في خطابه الشهير الذي ألقاه عبدالناصر في الأول من نوفمبر دوت كلماته «سنقاتل ولن نسلم»، وكانت الحرب التي تحدث عنها، ربما مستلهماً عبارات تشرشل هي حرب مريرة وشاملة، جنودها الشعب المصري كله، وترادفت الكلمات مع توزيع الأسلحة على الجماهير من الشاحنات في الميادين. 
 
في الثاني من نوفمبر أسكتت الطائرات المغيرة الإذاعة المصرية وحل محلها على الموجة نفسها «صوت بريطانيا»، ولكن الجماهير كانت في الأزهر لا تزال تلتف حول عبدالناصر الذي وعدها بالقتال معها حتى آخر نقطة من دمه. في وقت لاحق أعرب عبدالناصر عن المشاعر نفسها في لقائه مع السفير الأميركي، الذي كتب إلى واشنطن يقول إن عبدالناصر بدا له «هادئاً» مستقراً، وودوداً، وإن كان مرهقاً قليلاً». 
 
غير أن رفاق عبدالناصر في القيادة لم يكونوا على المستوى نفسه من الصمود، ففي أصيل ذلك اليوم، فقد عبدالحكيم عامر أعصابه واقترح وقفاً لإطلاق النار، وذهب إلى القول إن البديل هو موت ودمار على نطاق هائل بحيث أن النظام لابد له من أن يسقط على أي حال. عندما وصل صلاح سالم وافق على هذا الطرح، ووجه نصيحة شهيرة إلى عبدالناصر، وهي ان يسدي خدمة أخرى إلى بلاده، بأن يسلم نفسه إلى سير همفري تريفليان في مقر السفارة البريطانية بالقاهرة، لأن البريطانيين يريدونه وحده. 
 
كان ذلك هو رأي الأقلية في مجلس قيادة الثورة الذي خلص أعضاؤه سريعا إلى أنهم يؤثرون الموت على الاستسلام. وسرعان ما سحب عامر وصلاح سالم اقتراحيهما، واتفق الجميع على خوض غمار القتال حتى سقوط القاهرة ثم مواصلة المقاومة بالعمل تحت الأرض، واغتيال أي سياسي يبدى استعداده للخدمة في اطار حكومة متواطئة مع قوات الاحتلال. على الرغم من ذلك، فقد جثم همّ داهم على الصدور، ها هي أربع سنوات من انجازات الثورة تتبدد في غمضة عين. 
 
تقول لورا جيمس انه في الرابع من نوفمبر، لم يغمض جفن لعبد الناصر، وانه مضى يبكي لأنه «فقد الدولة فيما يبدو»، وهكذا انطلق تحت جنح الليل إلى خط الجبهة في بورسعيد، حيث ساوره الشعور بالاكتئاب حيال العدد الكبير من العربات المصرية المدمرة التي بدت له أطلال جيش مدمر. ويتذكر عبداللطيف بغدادي الذي صحبه في مهمته الليلية تلك أنه أحس بأنه يقف إزاء رجل محطم، ولدى وصولهما إلى بورسعيد تلقيا نبأ نزول القوات الانجلو ـ فرنسية، فانقلبا عائدين إلى القاهرة. 
 
على الرغم من تدهور الموقف، إلا أن عبدالناصر تشجع لأنه في اليوم نفسه الذي نزلت فيه القوات الانجلو ـ فرنسية اجتاحت ميدان الطرف الاغر المظاهرات المعادية للحرب، وبالتالي ألغيت أوامر نزول القيادة المصرية تحت الأرض، وأحس عبدالناصر في ملاحظة ساخرة له بأنه قد أنقذته الحماقة البريطانية التي سقط فيها إيدن بتعاونه مع إسرائيل، وهو الأمر الذي أكد تقديره الأصلي للموقف. 
 
على امتداد الحرب، فعلت القاهرة كل ما بوسعها لاستقطاب واشنطن، وبدت المؤشرات الأميركية الأولى مشجعة حيث، اختلفت الولايات المتحدة علنا مع بريطانيا وفرنسا في مجلس الأمن حول الإنذار الثلاثي، مما حدا عبدالناصر إلى أن يبعث برسالة إلى أيزنهاور عن طريق السفير الأميركي لدى القاهرة يطلب فيها تأييد أميركا ضد العدوان الانجلو ـ فرنسي، وذلك على الرغم من أنه لم يدهشه تحذير السفير الأميركي من أن أي مساعدة عسكرية أميركية لمصر هي أمر مستبعد في ظل الظروف الراهنة. 
 
وفي الاطار نفسه جاءت رسالة عبدالناصر السرية إلى دالاس التي يعد فيها بمعارضة الشيوعية والنظر في السلام مع إسرائيل وقبول وجود قوات تابعة للأمم المتحدة على الأراضي المصرية. 
 
غير أن الدف في الخطاب المصري كان محسوباً، وليس من قبيل الصدفة أن المفهوم المصري العام لموقف أميركا هو أنها تحاول الحلول مكان بريطانيا باعتبارها القوة الإقليمية، ويقول أمين هويدي متحدثاً عن الأميركيين: «لقد شكرناهم، لكن الجميع كان يعتقد أن الأميركيين يريدون قتلنا بإحكام قبضتهم على أعناقنا». هكذا انتهى «الصيف الهندي» في العلاقات بين القاهرة وواشنطن قبل ان يبدأ، وعلى الرغم من أن الخطر قد انحسر عن مصر في 8 نوفمبر، إلا ان عبدالناصر بدأ يواجه صعوبات فيما يتعلق بتشكيل قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة التي سترابط في سيناء. 
 
وحققت واشنطن أسوأ التوقعات المصرية في 5 يناير 1957 مع إعلان «مبدأ أيزنهاور» الذي برر صراحة ضلوع أميركا في الشرق الأوسط بحجة موازنة النفوذ السوفييتي. لم تكن الصعوبة الوحيدة التي برزت في هذه المرحلة على مستوى العلاقات الخارجية، وإنما برزت عقب انحسار أزمة السويس الصعوبات المتعلقة بالوضع الداخلي، حيث طغت على السطح الخلافات بين عبدالناصر وعامر، لتبرز الانكسارات الأولى في الصداقة بين الرجلين مع خروج قادة الانقلاب على الوحدة بين مصر وسوريا من مكتب عبدالحكيم عامر في دمشق لا غيره. 
 
عرض ومناقشة: كامل يوسف حسين

__________________


إن النصر عمل والعمل حركة والحركة فكر والفكر فهم وإيمان وهكذا فكل شئ يبدأ  
بالإنسان

 


 
Graphic by Martin
A Man ... A Nation ...


الـرجوع الى الفهـرس للمتابعة والمواصلة


شـكرا لزيارتكم للموقع

أنتم الضيف

 

رجوع الى بداية الصفحة
 



© 2007  جميع الحقوق محفوظة لكل من سامى شرف ويحى الشاعر.

© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US